تحليل متعمق للأسس والمرتكزات الفكرية للثورة المهدية (1881-1898م)
لم تكن الثورة المهدية، التي قادها محمد أحمد بن عبد الله، مجرد تمرد قبلي أو سياسي عابر ضد الحكم التركي المصري (التركيَة)، بل كانت في جوهرها حركة إصلاح ديني شاملة سعت إلى إقامة دولة إسلامية مثالية تقوم على العدل وتطهير المجتمع من الشوائب. لقد ارتكز نجاح هذه الثورة وسرعة انتشارها على أربعة محاور فكرية متكاملة منحتها الشرعية والدافع العملي.
1. المرتكز الديني الأول: دعوى المهدية والشرعية المطلقة
يُعد ادعاء محمد أحمد بأنه المهدي المنتظر هو حجر الزاوية الذي قامت عليه الثورة، وهو المرتكز الذي ميزها عن أي حركة تمرد أخرى في المنطقة.
أ. الجذور العقائدية والبيئة السودانية
كان الاعتقاد بظهور المهدي المنتظر معتقداً راسخاً ومتجذراً في البيئة السودانية، خصوصاً في أوساط الطرق الصوفية التي كانت المرجعية الروحية للشعب. استغل محمد أحمد هذه الأرضية الروحية الخصبة ليقدم نفسه ليس كمصلح بشري عادي، بل كـمبعوث إلهي موكل بمهمة تاريخية.
ب. التكليف المباشر والشرعية السماوية
لتعزيز شرعيته، أكد محمد أحمد أنه تلقى الإذن والتكليف المباشر من الرسول محمد ﷺ في اليقظة والمنام. هذا الادعاء كان حاسماً لسببين:
- إبطال شرعية الحكم القائم: اعتبر المهدي أن حكم التركية قد فقد شرعيته الدينية بسبب ظلمه وفساده، وأن زمنه قد انتهى بتكليفه الإلهي.
- تجاوز الولاءات القبلية: وضع المهدي نفسه فوق جميع السلطات والزعامات القبلية التقليدية. فأصبح الولاء له واجباً دينياً لا يمكن لأي زعيم قبلي أو شيخ طريقة صوفية أن ينافسه.
النتيجة الفكرية: أصبحت طاعة المهدي ليست مجرد خيار سياسي، بل فريضة دينية لا تقبل النقاش، مما وحّد شعباً متعدد الأعراق والقبائل تحت راية عقائدية واحدة.
2. المرتكز الإصلاحي: محاربة الفساد والعودة إلى نقاء الإسلام
كان الفساد الإداري والأخلاقي لحكم التركية هو الوقود الاجتماعي الذي غذى نار الثورة. ركزت الدعوة المهدية على تقديم برنامج إصلاحي جذري يهدف إلى تطهير المجتمع والعودة إلى تطبيق الشريعة.
أ. نقد الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية
هاجم المهدي بشدة مظاهر الترف والبذخ التي سادت بين موظفي الحكم التركي وعملائه، والتي كانت تتناقض مع فقر وعوز غالبية الشعب. ودعا إلى:
- الزهد والبساطة: فرض نمط حياة متقشف يعكس المثل العليا للإسلام، بما في ذلك الزي البسيط الموحد (الجبة المرقعة) كرمز للمساواة ورفض الترف.
- مكافحة الانحراف: حظر الممارسات التي اعتبرها مخالفة للشريعة، مثل شرب الخمور والموسيقى الصاخبة، ساعياً لفرض نظام أخلاقي صارم على الدولة والمجتمع.
ب. الإصلاح التشريعي والإداري
رفض المهدي القوانين الوضعية التي كانت سائدة في عهد التركية، معلناً أن المرجع الوحيد هو الكتاب والسنة.
أمر بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية في جميع مناحي الحياة، من القضاء إلى المعاملات الاقتصادية، مما أعطى الثورة صبغة إحيائية دينية جذبت إليها طبقة الفقهاء والعلماء الساخطين على ضعف سلطة الدين.
تمثل هذا المرتكز في شعار الثورة: "إن إقامة الدين واجبة، ولا تتم إلا بجهاد الكفار والظالمين".
3. المرتكز الاقتصادي والاجتماعي: العدالة كبديل للظلم
كان للظلم الاقتصادي دور كبير في تأييد الجماهير للثورة، حيث قدم المهدي حلاً جذرياً لمشكلة الضرائب التي أثقلت كاهل الفلاحين والرعاة.
أ. إلغاء نظام الجباية التركي
تميز الحكم التركي بفرض ضرائب باهظة وغير عادلة، بالإضافة إلى استخدام وسائل جباية قاسية ومرهقة. جاء المهدي لينادي بإلغاء كل هذه الضرائب دفعة واحدة.
ب. اعتماد النظام المالي الإسلامي
استبدل المهدي نظام الضرائب بنظام إسلامي قائم على الزكاة والغنيمة (الموارد المستخلصة من الجهاد).
- الزكاة: هي فريضة معلومة ومحددة بمقدار شرعي، مما أراح الناس من عشوائية الضرائب التركية.
- الغنيمة: كانت المورد الرئيسي لتمويل الدولة، حيث ضمنت للمقاتلين والمشاركين في الجهاد حصة من الأرباح المادية، مما كان حافزاً قوياً جداً للانضمام للثورة، خاصة للقبائل الفقيرة.
النتيجة الاجتماعية: حول هذا التغيير محمد أحمد من مجرد زعيم ديني إلى منقذ اقتصادي، مما ضمن التفاف الشرائح الاجتماعية الأفقر والمهمشة حول رايته.
4. المرتكز العملي والتعبوي: الجهاد وتنظيم الأنصار
لتحويل الفكرة إلى دولة، كان لابد من إطار عملي وعسكري، وهو ما وفره مفهوم الجهاد وتنظيم صفوف المقاتلين.
أ. تصنيف الحكم القائم كـ "كافر"
أصدر المهدي فتاوى تصنف الحكم التركي المصري على أنه حكم كافر وظالم يجب خلعه بالجهاد، مستنداً إلى أنه يرفع تطبيق الشريعة ويرتكب المظالم. هذا التصنيف جعل قتال الأتراك فريضة دينية بدلاً من صراع سياسي.
ب. تنظيم "الأنصار"
بدلاً من تسمية أتباعه بالجيش أو الثوار، أطلق عليهم اسم "الأنصار" (اقتداءً بالصحابة الذين نصروا الرسول ﷺ في المدينة)، مما أعطى التعبئة العسكرية طابعاً مقدساً وتاريخياً.
- البيعة: كان الانضمام إلى الثورة يتم عبر البيعة للمهدي، وهي عقد ديني يفوق أي تعهد دنيوي. هذه البيعة ألزمت المقاتلين بالطاعة العمياء للمهدي، وهو ما شكل العمود الفقري للتنظيم العسكري الموحد.
- التنظيم الهرمي: تم تنظيم الأنصار في وحدات عسكرية (رايات) يقودها الخلفاء (عبد الله التعايشي، علي ود حلو، وشريف أحمد)، مما ضمن انضباطاً وفعالية لا مثيل لهما بين القوات القبلية السودانية.
ج. تأثير الخلفية الصوفية على الانضباط
على الرغم من دعوته للإصلاح الديني، استفاد محمد أحمد من الميراث الصوفي في الطاعة المطلقة للشيخ لتنظيم جيشه. كانت البيعة للمهدي مستمدة من بيعة التلميذ لشيخه في الطريقة الصوفية، مما خلق قوة قتالية تتمتع بالروحانية العالية والاستعداد للتضحية.
الخلاصة
لقد شكلت هذه المرتكزات الأربعة (الشرعية الدينية المطلقة، والإصلاح الاجتماعي والأخلاقي، والعدالة الاقتصادية، والتنظيم الجهادي) شبكة متكاملة من الأفكار. هذا التناغم بين الأبعاد الروحية والاجتماعية والاقتصادية هو ما سمح للثورة المهدية بالتحول من حركة احتجاج محدودة إلى ثورة وطنية شاملة نجحت في تأسيس دولة استمرت لأكثر من عقد من الزمان.









إرسال تعليق